فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ}
يعني: أنه لا يقتحم العقبة من فكَّ رقبة، أو أطعمَ في يوم ذا مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا؛ أي صدّقوا، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله.
فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان، قال الله تعالى في المنافقين: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
وقالت عائشة: «يا رسول الله، إن ابن جُدْعَانَ كان في الجاهلية يصِل الرحِم، ويُطعم الطعام، ويَفُكُّ العاني، ويُعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فهل ينفعه ذلك شيئاً؟ قال: لا، إنه لم يقل يوماً ربِّ اغفرْ لي خطيئتي يومَ الدِّين» وقيل: {ثُمَّ كانَ مِن الذينَ آمَنُوا} أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة؛ نظيره قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82].
وقيل: المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى.
وقيل: أتى بهذه القُرَب لوجه الله، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد قال حكيم بن حزام بعد ما أسلم: «يا رسول الله، إنا كنا نَتَحَنث بأعمالٍ في الجاهلية، فهل لنا منها شيء؟ فقال عليه السلام: أسلمت على ما أسلفت من الخير».
وقيل: إن {ثم} بمعنى الواو؛ أي وكان هذا المعتِق الرقبة، والمطعم في المسغبة، من الذين آمنوا.
{وَتَوَاصَوْاْ} أي أوصى بعضهم بعضاً.
{بالصبر} على طاعة الله، وعن معاصيه؛ وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب.
{وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} أي بالرَّحمة على الخلق؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك رَحِموا اليتيم والمسكين.
{أولئك أَصْحَابُ الميمنة} أي الذين يُوْتَون كتبهم بأيمانهم؛ قاله محمد بن كعب القُرَظيّ وغيره.
وقال يحيى بن سلام: لأنهم مَيامينُ على أنفسهم.
ابن زيد: لأنهم أُخِذوا من شِقّ آدم الأيمن.
وقيل: لأن منزلتهم عن اليمين؛ قاله مَيمون بن مِهْران.
{والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا} أي القرآن.
{هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} أي يأخذون كتبهم بشمائلهم؛ قاله محمد بن كعب.
يحيى بن سلام: لأنهم مَشائيم على أنفسهم.
ابن زيد: لأنهم أُخِذوا من شِق آدم الأيسر.
ميمون: لأن منزلتهم عن اليسار.
قلت: ويجمع هذه الأقوال أن يُقال: إن أصحاب الميمنة أصحابُ الجنة، وأصحاب المشأمة أصحابُ النار؛ قال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} [الواقعة: 27 28]، وقال: {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة: 41 42]. وما كان مثله، ومعنى {مؤصدة} أي مطبَقة مُغْلَقة.
قال:
تَحِنُّ إلى أجبال مكة ناقَتِي ** ومِن دُونِها أبوابُ صنعاءَ مُؤْصَدَهْ

وقيل: مُبْهمة، لا يُدْرَى ما داخلُها.
وأهل اللغة يقولون: أَوْصَدْتُ البابَ وآصَدْتُهُ؛ أي أغلقته.
فمن قال أوصدت، فالاسم (الوِصاد)، ومن قال آصدته، فالاسم الإصاد.
وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشَّيْزَريُّ عن الكسائيّ {مؤصدة} بالهمز هنا، وفي (الهمزة).
الباقون بلا همز، وهما لُغتان، وعن أبي بكر بن عياش قال: لنا أمام يهمز {مؤصدة}، فأشتهي أن أسُدّ أذنيّ إذا سمعته. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ}
فإن عطف على المنفي أعني اقتحم فكأنه قيل فلا {أقتحم} ولا آمن ولا يلزم منه كون الايمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءاً أشرف خص بالذكر عطفاً فجاءت صورة التكرار ضرورة إذ الحمل على غير ذلك مفسد للمعنى ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض المتقدم يمنعه وقيل إن لا للدعاء والكلام دعاء على ذلك الكافر أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير وقيل لا مخفف ألا للتحضيض كهلا فكأنه قيل فهلا أقتحم أو الاستفهام محذوف والتقدير أفلا أقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم وفيه أنه لم يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى يقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا ** عدد الرمل والحصى والتراب

وقولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام ليس بشيء لظهور كان تحت النفي واتصال الكلام عليه قيل الكلام إخبار عن المستقبل فليس مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم بالمشاهدة فالأهم الإخبار عن حاله في الاستقبال لكن لتحقق الوقوع عبر بالماضي ونقل الطيبي عن أبي على الفارسي عدم وجوب تكريرها راداً على الزجاج في زعمه ذلك وقال هي كلم والتكرر في نحو {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] لا يدل على الوجوب كما في لم يسرفوا ولم يقتروا وعلى عدم التكرر جاء قول أمية السابق: أن تغفر اللهم تغفر جما ** وأي عبد لك لا ألما
والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله تعالى أعلم.
وابن كثير والنحويان {فك} فعلاً ماضياً {رقبة} بالنصب {أو أطعم} فعلاً ماضياً أيضاً وعلى هذه القراءة فـ: {فك} مبدلة من {اقتحم} وما بينهما اعتراض ومعناه أنك لم تدر كنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله عز وجل.
وقرأ أبو رجاء كذلك إلا أنه قرأ {ذا مسغبة} بالألف على أن {ذا} منصوب على المفعولية بـ: {أطعم} أي أطعم في يوم من الأيام إنساناً ذا مسغبة ويكون {يتيماً} بدلاً منه أو صفة له.
وقرأ هو أيضاً والحسن {أو إطعام في يوم ذا} بالألف أيضاً على أنه مفعول به للمصدر.
وقرأ بعض التابعين {فك رقبة} بالإضافة {أو أطعم} فعلاً ماضياً وهو معطوف على المصدر لتأويله به والتراخي المفهوم من {ثم} في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ} إلخ رتبي فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقل بكونه سبباً للنجاة وشكراً بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا يعتد به بدونه وقوله سبحانه: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} عطف على {آمنوا} أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو بذلك والصبر على الطاعات أو به والصبر عن المعاصي وعلى المحن التي يبتلي بها الإنسان {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} أي بالرحمة على عباده عز وجل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو الكلام على تقدير مضاف وذكر أن تواصوا بالصبر إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى.
{وتواصوا بالمرحمة} إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين الأصل في التصوف أمران صدق مع الحق وخلق مع الخلق.
{أولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة {الميمنة مَا} أي جهة اليمين التي فيها السعداء أو اليمن لكونهم ميامين على أنفسهم وعلى غيرهم.
{والذين كَفَرُواْ بآياتنا} بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن {هُمْ أصحاب المشئمة} أي جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم.
{عَلَيْهِمْ نَارٌ} عظيمة {مؤصدة} مطبقة من آصدت الباب إذا غلقته وأطبقته وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد وظاهر كلام ابن عباس عدم الاختصاص بهم ومن ذلك قول الشاعر:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ** ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

ويجوز أن يكون من أوصدت بمعنى غلقت أيضاً وهمز على حد من قرأ {بالسؤق} [ص: 33] مهموزاً وقرأ غير واحد من السبعة موصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت وقيل يجوز أن يكون من آصدت وسهلت الهمزة وقال الشاعر:
قوماً يعالج قملا أبناؤهم ** وسلاسلاً ملساً وباباً موصداً

والمراد مغلقة أبوابها وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين لأنه الأنسب بما سيق له الكلام والأوفق بالغرض والمرام ولذا جيء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر واعتبروا غيباً كأنهم بحيث لا يصلحون بوجه من الوجوه لأن يكونوا مشاراً إليهم ولم يسلك نحو هذا المسلك في الجملة الأولى التي في شأن المؤمنين ونقل عن الشمني أنه قال الحكمة في ترك ضمير الفصل في الأولين والإتيان بدله باسم الإشارة أن اسم الإشارة يؤتى به لتمييز ما أريد به أكمل تمييز كقوله:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ** من نسل شيبان بين الضال والسلم

ولا كذلك الضمير فإن اسم الإشارة البعيد يفيد التعظيم لتنزيل رفعة محل المشار به إليه منزلة بعد درجته فاسم الإشارة للتعظيم والإشارة إلى تمييزهم واستحقاقهم كمال الشهرة بخلاف أصحاب المشأمة والضمير لا يفيد ذلك انتهى وفيه أن اسم الإشارة كما يفيد التعظيم يفيد التحقير كما في قوله تعالى: {فذلك الذي يدع اليتيم} [الماعون: 2] وكمال الشهرة كما يكون في الخير يكون في الشر فأي مانع من اعتبار استحقاقهم كمال الشهرة في الشر وبالجملة لما ذكره ليس بشيء ولعل ما ذكرناه هو الأولى فتدبر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {ثم كان من الذين آمنوا}
عطف على جملة {فلا اقتحم العقبة}.
و{ثم} للتراخي الرتبي فتدل على أن مضمون الجملة المعطوفة بها أرقى رتبة في الغرض المسوق له الكلام من مضمون الكلام المعطوفة عليه، فيصير تقدير الكلام: فلا اقتحم العقبة بفكّ رقبة أو إطعاممٍ بعد كونه مؤمناً.
وفي فعل {كان} إشعار بأن إيمانه سابق على اقتحام العقبة المطلوبة فيه بطريقة التوبيخ على انتفائها عنه.
فعطفُ {ثم كان من الذين آمنوا} على الجمل المسوقة للتوبيخ والذم يفيد أن هذا الصنف من الناس أو هذا الإِنسان المعين لم يكن من المؤمنين، وأنه ملوم على ما فَرَّط فيه لانتفاء إيمانه، وأنه لو فعل شيئاً من هذه الأعمال الحسنة ولم يكن من الذين آمنوا ما نفعه عملُه شيئاً لأنه قد انتفى عنه الحظ الأعظم من الصالحات كما دلت عليه {ثم} من التراخي الرتبي فهو مؤذن بأنه شرط في الاعتداد بالأعمال.
وعن عائشة: أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله (أي يريد التقرب) فهل ينفعه ذلك شيئاً قال: «لا إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
ويفهم من الآية بمفهوم صفة الذين آمنوا أنه لو عمل هذه القرب في الجاهلية وآمن بالله حين جاء الإسلام لكان عمله ذلك محموداً.
ومن يجعل {ثُم} مفيدة للتراخي في الزمان يجعل المعنى: لا اقتحم العقبة واتبعها بالإِيمان.
أي اقتحم العقبة في الجاهلية وأسلمَ لمّا جاء الإسلام.
وقد جاء ذلك صريحاً في حديث حكيم بن حزام في الصحيح: «قال: قلت: يا رسول الله أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما سلف من خير» والتحنّث: التعبد يعني أن دخوله في الإِسلام أفاده إعطاء ثواب على أعماله كأنه عملها في الإِسلام.
وقال: {من الذين آمنوا} دون أن يقول: ثم كان مؤمناً، لأن كونه من الذين آمنوا أدل على ثبوت الإِيمان من الوصف بمؤمن لأن صفة الجماعة أقوى من أجل كثرة الموصوفين بها فإن كثرة الخير خير، كما تقدم في قوله تعالى: {قال أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين} في سورة البقرة (67)، ثم في هذه الآية تقوية أخرى للوصف، وهو جعله بالموصول المشعرِ بأنهم عُرفوا بالإِيمان بَيْن الفرق.
وحُذِف متعلّق {آمنوا} للعلم به أي آمنوا بالله وحده وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإِسلام.
فجُعل الفعل كالمستغني عن المتعلق.
وأيضاً ليتأتى من ذكر الذين آمنوا تخلص إلى الثناء عليهم بقوله: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} ولبشارتهم بأنهم أصحاب الميمنة.
وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإِيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشّهوة النفسانية وذلك من الصبر.
والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى: {رحماء بينهم} [الفتح: 29].
والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضاً كناية عن اتصافهم بالمرحمة لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عَرَف قدرَها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يُوصي بها، كما تقدم في قوله تعالى: {ولا تحضون على طعام المسكين} [الفجر: 18].
وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة، وقد صُرح بذلك في قوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللَّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} إلى قوله: {وما يلقاها إلا الذين صبروا} [فصلت: 33 35] وقوله: {بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين} [الفجر: 17، 18].
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الميمنة (18)}
لَمَّا نوه بالذين آمنوا أعقب التنويه بالثناء عليهم وبشارتهم مفتتحاً باسم الإِشارة لتمييزهم أكمل تمييز لإِحضارهم بصفاتهم في ذهن السامع، مع ما في اسم الإِشارة من إرادة التنويه والتعظيم.
و{الميمنة} جهة اليمين، فهي مَفْعَلة للمكان مأخوذة من فعل يَمَنَه (فعلاً ماضياً) إذا كان على يمينه، أي على جهة يده اليمنى، أو مأخوذة من يَمَنَه اللَّهُ يُمْناً، إذا بَاركه، وإحدى المادتين مأخوذة من الأخرى.
قيل: سميت اليد اليمنى يميناً ويُمنى لأنها أعود نفعاً على صاحبها في يسرْ أعماله، ولذلك سمي بلاد اليمن يَمَناً لأنها عن جهة يمين الواقف مستقبلاً الكعبة من بابها لأن باب الكعبة شرقي، فالجهة التي على يمين الداخل إلى الكعبة هي الجنوب وهي جهة بلاد اليمن.
وكانت بلاد اليمن مشهورة بالخيرات فهي ميمونة.
وكان جغرافيو اليونان يصفونها بالعربية السعيدة، وتفرع على ذلك اعتبارهم ما جاء عن اليمين من الوحش والطير مبشراً بالخير في عقيدة أهل الزجر والعيافة فالأيامن الميمونة قال المرقش يفند ذلك:
فإذا الأشائِم كالأيا ** مِننِ والأيَامِنُ كالأشائِمْ

ونشأ على اعتبار عكس ذلك تسمية بلاد الشام شأماً بالهمز مشتقة من الشؤم لأن بلاد الشام من جهة شِمال الداخل إلى الكعبة وقد أبطل الإِسلام ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شأمِنا وفي يَمَنِنَا» وما تسميتهم ضد اليد اليمنى يساراً إلا لإِبطال ما يُتوهم من الشؤم فيها.
ولما كانت جهة اليمين جهة مكرمة تعارفوا الجلوس على اليمين في المجامع كرامةً للجالس، وجعلوا ضدهم بعكس ذلك.
وقد أبطله الإسلام فكان الناس يجلسون حين انتهى بهم المجلس.
وسمّي أهل الجنة {أصحاب الميمنة} و{أصحاب اليمين} [الواقعة: 27] وسمي أهل النار {أصحاب المشأمة} و{أصحاب الشمال} في سورة الواقعة (41)، فقوله: {أولئك أصحاب الميمنة} أي أصحاب الكرامة عند الله.
وقوله: {هم أصحاب المشأمة} أي هم محقرون.
وذلك كناية مبنية على عرف العرب يومئذ في مجالسهم.
ولا ميمنة ولا مشأمة على الحقيقة لأن حقيقة الميمنة والمشأمة تقتضيان حَيِّزاً لمن تُنسَب إليه الجهةُ.
وجملة: {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة} تتميم لِما سيق من ذم الإِنسان المذكور آنفاً إذ لم يعقّبْ ذمُّه هنالك بوعيده عِناية بالأهم وهو ذكر حالة أضداده ووعدِهم، فلما قُضي حق ذلك ثُني العنان إلى ذلك الإِنسان فحصل من هذا النظم البديع محسِّن ردّ العجز على الصدر، ومحسن الطباق بين الميمنة والمشأمة.
وقد عرف آنفاً أن المشأمة منزلة الإِهانة والغضب، ولذلك أتبع بقوله: {عليهم نار مؤصدة}.
وضمير الفصل في قوله: {هم أصحاب المشأمة} لتقوية الحكم وليس للقصر، إذ قد استفيد القصر من ذكر الجملة المضادة للتي قبلها وهي {أولئك أصحاب الميمنة}.
و{مؤصدة} اسم مفعول من أوصد الباب بالواو.
ويقال: أأصد بالهمز وهما لغتان.
قيل: الهمز لغة قريش وقيل: معناه جعله وصيدة.
والوصيدة: بيت يتخذ من الحجارة في الجبال لحفظ الإبل.
فقرأ الجمهور: {مُوصَدة} بواو ساكنة بعد الميم من أوصد بالواو، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم من ءَاصد الباب، بهمزتين بمعنى وصَده.
وجملة: {عليهم نار موصدة} بدل اشتمال من جملة {هم أصحاب المشأمة} أو استئناف بياني ناشئ عن الإِخبار عنهم بأنهم أصحاب المشأمة.
و{عليهم} متعلق بـ: {مؤصدة}، وقدم على عامله للاهتمام بتعلق الغلق عليهم تعجيلاً للترهيب.
وقد استتب بهذا التقديم رعاية الفواصل بالهاء ابتداء من قوله: {فلا اقتحم العقبة} [البلد: 11].
وإسناد المُوصَديَّة إلى النار مجاز عقلي، والموصد هو موضع النار، أي جهنم. اهـ.